روى مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة "[2]، فالتوبة واجبة على كل إنسان، كما قال الله تعالى في كتابه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وذلك أن إنسانًا ما لا يزعم لنفسه أنه مطهر من كل ذنب، ومن كل خطيئة، لقد جاء في الحديث: "كل بني آدم خطاء"[3]، ولكن لا يضرُّ الإنسان أن يُخطئ، وإنما يضرُّه أن يتمادى في الخطأ والخطيئة، أن يستمرَّ في الغفلة عن الله والإعراض عنه ...
إن آدم أبا البشر أخطأ ونسي ولم يجد له الله عزما، ولكنه سرعان ما راجع نفسه، وعاد يقرع باب ربه، ويقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
إن الإنسان يُخطئ وتزلَّ قدمه فيهوي إلى المعصية، ولكنه يستطيع أن يَرقِع ما فتقه بالتوبة.
التوبة هي الممحاة التي منحها الله للإنسان، ليستطيع أن يغسل بها ذنوبه، وأن يتطهر بها من ماضيه، وأن يتحرر من آثاره، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، و "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"[4]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
حقيقة التوبة ومعناها
ولكن ... ما التوبة؟ ما معناها؟
إن التوبة ليست كلامًا يقال باللسان، كما يظن بعض الناس، حين يقول: تبتُ إلى الله، ورجعتُ إلى الله، وندمتُ على معصية الله، وعزمتُ على طاعة الله ...
لا ... هذا ليس هو التوبة.
فالتوبة مزيج مُركَّب من عدة أشياء:
أولها: الندم على معصية الله ... أن يغمر القلب شعور بالأسى والحسرة على ما فرط في جنب الله، شعور يشبه ذلك الشعور الذي حدَّث الله عنه في كتابه، شعور الثلاثة الذين خُلِفوا، حين ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم.
هذا هو الندم، الأسى، الحزن، الحسرة.
لا بد من هذا الشعور ... ثم هناك شيء آخر، يولِّده هذا الشعور هو النية... والعزم الصادق على إصلاح الأمر، وتدارك ما فات ... العزم على الطاعة، وعلى ترك المعصية، فلا يعود إليها كما لا يعود اللبن إلى الضَّرع.
لا بد من هذه العزيمة الأكيدة الوثيقة ...
ثم شيء آخر، وهو أن يعمل صالحًا بالفعل، مكان السيئات يبدِّلها حسنات وصالحات، يُغيِّر ما كان عليه ... بدل قول الزور يتكلم الحق، بدل عمل السوء يعمل صالحًا، بدل بيئة السوء يُغيِّرها إلي بيئة حسنة، بيئة صالحة، تُساعده على فعل الخير ...
لا بد من هذا ... ومن هنا كان القرآن يجعل بعد التوبة ... الإيمان بالعمل الصالح: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60].
قرن التوبة بالإيمان، لأن المعاصي -وخاصة الكبائر- تخدش الإيمان وتجرحه، فـ"لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"[5].
فلا بد أن يُجدِّد إيمانه بالتوبة ... وأن يعمل بعد ذلك صالحا ... هذا هو المزيج ... الذي لا بد منه في التوبة.
ثم إذا تاب ... فإن الله سبحانه وتعالى، يقبل منه ... سُنة من سُنن الله تعالى.
قيل لرابعة العدوية: إذا تبتُ .. تاب الله عليَّ؟ قالت: يا هذا بل إذا تاب الله عليك تبتَ. ثم قالت له: أما سمعتَ قول الله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
موانع التوبة
ولكن ... ما الذي يُعجز الناس عن التوبة؟ ما الذي يُؤخرهم أن يتوبوا؟ هذه مسألة لا بد أن نعرفها.
إن الذي يُؤخر الناس عن التوبة عدة أمور:
أولها: التسويف
التسويف ... طول الأمل ... اعتقاد الإنسان أنه لا يزال له في العُمر مُتسع، وفي الحياة مدى بعيد.
إن ابن العشرين يظن أن أمامه مُتسع ... وابن الثلاثين يقول ... وابن الأربعين ... فإذا بلغ الخمسين ... للستين ...
كل إنسان عنده أمل ... وهذا للأسف يُضيِّع على الناس فُرص التوبة، فمَن الذي يدري أيعيش اليوم أم لا يعيش؟
مَن الذي يدري إذا خرج من بيته أيعود إليه حيا أم يعود إليه ميتًا؟ أيعود إليه حاملاً أم يعود محمولاً؟
تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليل هــل تعيش إلى الفجر؟
فكم من سليم مات من غير عِلَّة وكم من سقيم عـاش حينًا من الدهر
وكم من فتى يُمسي ويُصبح آمنًا وقد نُسجت أكفانه وهو لا يــدري
الشيء الثاني: هو الاستهانة بالمعصية
الاستهانة بالمعصية ... الاستخفاف بها، استصغار المعصية ... يظن أن هذا شيء بسيط، وهذا ليس من شأن المؤمن، فقد جاء في حديث البخاري: "المؤمن يري ذنبه كالجبل، يخاف أن يقع عليه، والمنافق يري ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال هكذا وهكذا"[6]. أطاره من على أنفه ...
مرض بعض الصالحين، فدخل عليه مَن يعوده، فوجده يبكي بكاءً حارًا، فقيل له: يا أبا فلان ... مالك تبكي؟ وأنت الذي فعلت وفعلت ... ما رأينا عليك حُرمة انتهكتَها، ولا فريضة تركتَها ... فقال: والله ما أبكي على ذلك، ولكن أبكي لأني أخاف أن أكون قد أتيت ذنبًا أحسبه هينًا وهو عند الله عظيم[7].
وقد قال بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، وانظر إلي كبرياء من عصيته.
فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بالمعصية، فقد قيل: أن الذنب الذي يخشى ألا يغفر هو الذي يقول فيه صاحبه، ليت كل ذنب فعلته مثل هذا. استصغارًا له، واستهانة بشأنه.
المانع الثالث: الاتكال على عفو الله
ثم هناك مانع نفسي آخر ... هو ... الاتكال على عفو الله، وهذه أمنية يبذُرها الشيطان في قلب بعض الناس: {يأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169]، هكذا كان يفعل اليهود ... يأخذون متاع الحياة الدنيا ويقولون: سيغفر لنا، ينظرون إلى جانب العفو والمغفرة، ولا ينظرون إلى جانب البطش والعقاب، والله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49،50].
صحيح أن رحمته وسعت كل شيء، ولكن لمَن كتب هذه الرحمة؟ إنه يقول: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]، ويقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
فإذا نظر الإنسان إلى قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فيكمل الآية {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3].
المؤمن بين الرجاء والخوف
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن بين الرجاء والخوف، {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، كالذين حدَّث الله عنهم: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الاسراء:57].
كان بعض الصالحين يقول:
ما بال قلبك ترضى أن تُدنِّسه وثوبك الدهر مغسول من الدَّنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
أيها الإخوة: ينبغي أن نُسارع بالتوبة ... ينبغي أن نُبادر فنُراجع حسابنا مع الله عز وجل، ونصحح أخطاءنا، ونقف على باب ربنا مُستغفرين تائبين، نقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، خير ما نخرج به من رمضان توبة صادقة نصوح، نكفر بها سيئاتنا، ونغسل بها أوزارنا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8].
أسأل الله عز وجل، أن يتوب علينا، وأن يوفقنا إلى التوبة الصادقة النصوح.. إنه سميع قريب
وصلى الله على محمد وآله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[8].