فهم الواقع والفقه فيه والعناية به .. ذلك كله يعين على تصور صحيح للمسألة محل الاجتهاد والتجديد, ومن ثم إصدار حكم مناسب لها [1] .. فالعالِم - كما يقول الإمام ابن القيم- هو "من يتوصل بمعرفة الواقع والفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.. كما توصل شاهد يوسف عليه السلام بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه".
2- إن "معرفة المحكوم فيه على حقيقته، ومعرفة ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه: يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها, إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر مما وضعت له، أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه.
إن الفقه الحق لابد أن يكون واقعياً؛ يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ.
3- والواقع كالنهر الجاري؛ ماؤه الذي تراه اليوم غير مائه الذي رأيته بالأمس, وكذلك الواقع؛ ففي كل يوم، بل في كل لحظةٍ واقع جديد، يختلف كثيراً أو قليلاً عن سابقه .. ولا تعنينا –كما يقول الريسوني بحق- التغيرات الطفيفة والبطيئة, ولكن تعنينا التغيرات المؤثرة سواء جاءت بطيئة أو سريعة .. هذه التغيرات إذا أصابت أموراً هي مناط لبعض الأحكام فلابد أن تتغير تلك الأحكام التي تغيرت متعلقاتها .. فإذا ثبت أن الاعتبارات التي تغيرت كانت هي مناط الحكم، وعليها ولأجلها وضع الحكم، فلابد للفقيه أن يعيد النظر في ذلك الحكم موازناً بين ما تغير وما جدَّ, لتقرير الحكم الملائم للوضع الجديد وللحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع، أو اجتهد فيه المجتهدون، لم يوضع للحالة الجديدة التي بين أيدينا". [2]
ونلخص من هذا إلى أن الاجتهاد ينبغي أن يلحظ, بعين الاعتبار, الواقع المتغير دوماً؛ حتى يحقق مقاصد الشريعة.
4- إن ما ندعو إليه هو فهم الواقع, والتواصل الحقيقي مع الأمة وأحوالها, والوعي بما يجري فيها من توجهات وأعراف وميول ونوازع .. ثم محاولة فهم للواجب الذي سنقوم به حيال هذا الواقع من خلال أحكام الشريعة.
5- وعلى كلٍ منا أن يتذكر قول عمر بن الخطاب, في رسالته الشهيرة (ودع عنك مسألة ثبوتها من عدمه؛ فإنما يهمنا المضمون) لأبي موسى الأشعري في القضاء, "الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك"؛ فنحن للأسف قد اعتدنا أن نفهم الأحكام الشرعية مجردة عن الواقع، ثم ندعي مناسبتها له دون فهم عناصره ومقدماته وسياقه وقرائنه.
ولله در العز بن عبد السلام القائل بأن "كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده، فهو باطل" [3] .. ولله در مالك بن نبي الذي فرَّقَ بين (الصحة) و(الصلاحية)؛ أي أن الكلام قد يكون (صحيحاً) ولكنه (غير صالح) [4] .. وهذا ينطبق على كل أنواع الفكر الإنساني - ومنه الاجتهاد الفقهي- الذي قد يكون فكراً صحيحاً في زمانه ومكانه ولكنه غير صالح لزمان ومكان آخر.
إن آفتنا - التي تقف عائقاً ضخماً في سبيل تقدمنا اليوم- هي أننا أمة لا تخضعُ للحقيقة, وإنما تبني الحقيقة، وغالباً ما تكون تلك الحقيقة التي تبنيها حقيقةً متوهمةً متخيلةً طبقاً لما نريد نحن، فموادها وعناصرها من عقولنا نحن دون مراعاةٍ للواقع في شيء .. فنحن دائماً نصوغ الفكرة في صورة الشعر؛ لا نستجيب للواقع, ولا ندرك أبعاده ومحدادته, وإنما نبني صورة متخيلةً بغض النظر عن الواقع [5].
6/ 1- نحن نريد بفقه الواقع "أن ندرس المسألةَ -على الطبيعة لا على الورق- دراسةً علمية موضوعية بلا تهوين ولا تهويل, بعيداً عن أعين النظرات الحالمة والأفكار المتشائمة". [6].
6/ 2 - إن المعنى الصحيح لمصطلح (فقه الواقع) هو: معرفة الواقع والخبرة بشئونه وأحواله على ما هي عليه .. وهو مصطلح وضع بجانب مصطلح (فقه التدين) ليكون مكملاً ومعيناً عليه, لا بديلاً عنه .. ولكن البعض يفهمه على أنه صنف جديد من الفقه يجب أن يحل محل الفقه القديم .. وفقه الواقع عند هؤلاء هو الفقه الذي (يخضع) للواقع, و(لا يصادمه), بل (يواكبه) بفتاوى (التسويغ والتأييد والقبول والترحيب) .. وهذا في الحقيقة ليس من الفقه, ولا من الاجتهاد, في شيء, وإنما هو - إن شئت الصراحة- (فقه نفي الشريعة) و(اجتهاد في إقصائها وإلغائها) .. ومن ثم, لا ينبغي, ولا يجوز, أن نلحق بالواقع وننخرط فيه كما تفعل السواقي والروافد في النهر العظيم المتدفق؛ تذوب فيه وتفنى, وتقويه وترفع من هديره, وربما تسهم في فيضانه وزيغانه .. وإنما الذي يجب علينا فعله هو أن نتفاعل ونتعارك, ونتحاور ونتدافع, مع الواقع, ليس فقط بنوع من الندية, بل بنوع من الاستعلاء؛ الاستعلاء المتواضع المحب للخير والنفع؛ إذ ضعف المسلمين لا ينبغي أن يحجب عنا قوة الإسلام [7].
7/1- ومن الأمثلة الدالة على أهمية رعاية الواقع وملابساته والتفقه فيه:
( أ ) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالّة الإبل, فقال للسائل: "دعها, معها حذاؤها وسقاؤها" .. فلما جاء عثمان (رضي الله عنه) أمر بأخذ ضالة الإبل, والتعريف بها, ثم بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها, فإذا جاء أخذه؛ لأنه رأى اختلافاً في الأحوال والعوائد .. لقد كان الأمر النبوي بترك ضالّة الإبل منطلقاً من حفظ المال في مجتمع غلبت عليه الأمانة, فإذا قلٍّت الأمانة صار إتلاف المال بتسلط الأيدي العادية وارداِّ ومحتملاِّ .. فالأمر بالأخذ –والحال كذلك- محقق لنفس المصلحة من الأمر بالترك هناك.
وهذا مثال واضح عن تغير الحكم بتغير الواقع، وهو يمثل اعترافاً من سيدنا عثمان أن الواقع الإجتماعي الذي حقق المقصد الشرعي أول مرة لم يعد موجوداِّ لتحقيق المقصد الشرعي في المرة الثانية [8].
وأما الزعم بأن عثمان قد خالف سنة النبي (ص) بفعله هذا, فهو زعم باطل؛ لأن عثمان نظر إلى مقاصد الشريعة في الحفاظ على أموال الناس, ففعل ما هو الأصلح في زمنه, كما فعل النبي (ص) ما هو الأصلح في زمنه.
( ب ) ما كان من الفقيه المالكى الكبير والشهير: ابن أبي زيد القيرواني, فقد رووا أن حائطاً انهدم من داره, وكان يخاف على نفسه من بعض الناس, فاتخذ كلبا للحراسة وربطه فى الدار. فقيل له: إن الإمام مالك يكره ذلك. فقال: لو أدرك مالك زمانك لاتخذ أسدا ضارياً !!
7/2- ولنضرب الآن بعض الأمثلة التطبيقية في الموضوع :
( أ ) لقد كان علماؤنا قديماً لا يأخذون بشهادة حاسر الرأس أو حليق اللحية أو من يأكل على قارعة الطريق؛ باعتبار أن هذا من خوارم المروءة، ولو طبق هذا الرأي الفقهي الآن لخلت المحاكم من الشهود، فهذا مما عمت به البلوى .. فضلاً عن كون مسألة حلق اللحية أو عدم تغطية الرأس من الأمور الاجتهادية - لا القطعية- التي لا يجوز أصلاً إسقاط شهادة من يأتي بها .
( ب ) ولم يقبل علماؤنا القدامى كذلك شهادة البدوي على الحضري؛ لأنه غير عالم بحياة الحضري ولا نمط عيشه ولا مصطلحاته. بل وورد في كلام قدامى الفقهاء النهي عند إمامة البدوي للحضري؛ لأن الغالب أن الحضري أعرف بالأحكام وأشهد للجمع والصلوات في المساجد.
( ج ) ونحن نرى في أيامنا هذه أن لأهل الإسكيمو - من المسلمين- التيمم بالثلج؛ لانعدام الصعيد الطاهر، بل هو في ذاته صعيد طاهر - بالنسبة لبيئتهم- .. كما نرى جواز اقتنائهم الكلاب؛ لعدم قدرتهم على الاستغناء عنها في حياتهم اليومية.
( د ) ومن أمثلة سوء إدراك الواقع - دون الدخول في تفاصيل بيان ذلك السوء؛ إذ لا يتسع المقام لها ههنا- :
· الرأي القائل بجواز عقد (معاهدات سلام) - لا (اتفاقيات هدنة)- مع العدو الإسرائيلي؛ وكأن ما بيننا وبينهم لم يكن إلا سحابة صيف؛ في حين أنه معركة حياة أو موت
· والرأي القائل بوجوب هجرة أهل فلسطين لفلسطين؛ والذي يَؤُول إلى إجازة - بل وجوب- هجرة كل أهل بلد لبلدهم؛ لمجرد كونه قد أصبح محتلاً من عدو غاشم ! ولو أخذت الشعوب الإنسانية بهذا الرأي لما وجدوا لهم مكاناً على سطح الكرة الأرضية ! ولَمَا كان عمران .. ولَمَا قامت حضارة !
· والرأي القائل بجواز شد الرحال إلى المسجد الأقصى في ظل وضعه الراهن الذي يتطلب الحصول على تأشيرة دخول من الكيان الصهيوني الغاصب؛ مما يعني إقراراً ضمنياً - دون ضرورة ملجئة- بمشروعية تلك السلطة الاحتلالية الغاشمة؛ وهو ما لا يقول به مسلم يفقه دينه ويعي واقعه !
8/ 1 - ومما يساعد على فهم الواقع والفقه فيه: القراءة؛ فإن لها أهمية خاصة, بل هي الخلفية القوية التي يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه -والداعية-, وضحالة القراءة, أو نضوب الثقافة, تهمة خطيرة - كما يقول بحق حكيم الدعوة الإسلامية/ محمد الغزالي- للمتحدثين في شؤون الدين, إذا صحت تزيل الثقة فيهم.
8/ 2 - إن القراءة - أي الثقافة[9]- هي الشيء الوحيد الذي يعطي فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشؤونه، وهي التي تضع حدوداً صحيحة لشتى المفاهيم، وكثيراً ما يكون قصور الفقهاء والدعاة راجعاً إلى فقرهم الثقافي.
والفقر الثقافي للعالم الديني - كما يقول بحق محمد الغزالي- أشد في خطورته من فقر الدم عند المرضى وضعاف الأجسام .. ولابد للفقيه - وكذلك الداعية إلى الله- أن يقرأ كل شيء، يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد .. يقرأ في كتب السنة، كما يقرأ في كتب المبتدعة .. باختصار: يقرأ كل منازع الفكر البشري المتفاوتة ليعرف الحياة والمؤثرات في جوانبها المتعددة.
ثم إن الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي أمر لا مناص منه, كما الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علوم النفس والاجتماع والسياسية والاقتصاد والتاريخ, ومزج ذلك كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة.
إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة, أو الحكم الصائب الذي ينبغي تقريره, لا يتم إلا على رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء .. وربما كان أسلافنا القدامى قد رزقوا من سلامة الفطرة وحدة الذكاء ما يجعلهم قادرين على حسن الفهم والحكم، لكننا في هذا العصر لا نصل -في أغلبنا- إلى مستواهم إلا بعد دراسات مضاعفة .. كما يستعين صاحب النظر القصير بالمناظير المقربة حتى يعرف ما يقرأ أو حتى يدرك من بعيد مالا يستطيع رؤيته بالعين المجردة.
باختصار: يجب على الفقيه أن يكون عارفاً للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مطلعاً على التاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات .. كما يجب أن يبادل الناس الحوار بقلب مفتوح؛ فلا يكون أنانياً, ولا حاقداً, ولا تحركه النزوات العابرة, ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص .. كما ينبغي أن يلتمس الأعذار للمخطئين, وألا يتربص بهم، بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا [10].
8/ 3 - وقد لاحظت أن هناك أصنافاً من المنتسبين للفقه تسيء إلى الإسلام أشد الإساءة, آتي على ذكر أحوالهم للتحذير من سلوك مسلكهم [11] :
· منهم من يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه إلا أن الدين يرفض كذا وكذا دون أن يكلف نفسه أي عناء لتقديم البديل الذي يحتاج إليه الناس .. وكأن مهمته اعتراض السائرين في الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلى طريق آخر أرشد وأصوب.
· ومنهم من يعيش في الماضي البعيد وكأن الإسلام دين لحقبة ماضية, وليس للحاضر ولا للمستقبل، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلاً –وقد يكون محقاً في بعض ما يقوله- ولكنه ينسى أن الخصومات التي تواجه الإسلام قد تغيرت وحملت حقائق وعناوين أخرى.
· ومنهم من لا يفرق بين (الشكل) و(الموضوع), أو بين (الفرع) و(الأصل), أو بين (الجزئي) و (الكلي) بأي شكل من الأشكال .. فيبدد قواه كلها في محاربة هذا الشكل أو ذاك، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه .. ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة، ولذلك قد يهجمون شرقاً على عدو موهوم ويتركون غرباً عدواً ظاهراً، بل ربما حاربوا في غير عدو !!
9 - إن عملية استنباط الأحكام, وتقديم الفتاوى, عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع؛ إذ الواقع (مختبر) يستطيع أن يبين لنا ملاءمة الفتوى أو حرجها [12] .. ومن هنا كانت أهمية (اختبار الفقه في الواقع العملي)؛ إذ هو (المرجح المحايد), وقوله الفصل, عند اختلاف الآراء [13] .. وبـ (التجربة العملية) نستطيع أن نتدخل في مجرى الأمر محل الاجتهاد والبحث؛ بأن نحور تركيبه, أو نعدل الظروف التي يوجد فيها, مما يرفع درجة الضبط, ويٌمَكن للموضوعية [14] ؛ لأنه إذا كان الغالب أن تكون المصلحة المتوخاة من تقرير رأي اجتهادي مصلحةً ظنية, فإن (التجريب في الواقع) قد يعيننا على معرفة المصلحة القطعية, أو الراجحة على أقل تقدير.
10- وأختم بقول الأستاذ الفاضل/ عمر عبيد حسنة :
" تحديد المشكلات، ومعرفة أسبابها، ومحاولة تصنيفها، وجدولة أولوياتها بحسب الإمكانات المتوفرة، ومن خلال مراعاة الظروف المحيطة، والاعتبار بالماضي، وفقه الأحكام الشرعية، وما يقتضيه تنزيلها على الواقع من توفر التأكد من أهلية محل التنزيل وتوفر شروطه... هو السبيل السليم للتعامل مع المجتمع، أو مع الواقع، وتقويمه بشرع الله وقيم الدين.
إن فهم الواقع والتعرف عليه بدقة، أو بعبارة أدق: فقه هذا الواقع الذي هو محل الأحكام وموضوعها، لا يتأتى من الرؤى الحسيرة، ولا المجازفات القاصرة، والانفعالات التي يحكمها رد الفعل، أو محاولات اختزال الماضي في موقف، أو الحكم على الواقع من خلال لحظة تاريخية، أو نتيجة قريبة، أو النظر إليه من خلال نقطة سوداء، أو حالة طفو زبد، أو شيوع غثاءٍ، بعيداً عن استكناه الحقائق الاجتماعية، وتجاوز الصورة إلى الحقيقة، واكتشاف القانون الاجتماعي أو قانون الحركة الاجتماعية أو ما يمكن أن نطلق عليه (المنهج السنني)، الذي يمكن من تفسير الظواهر على وجهها الصحيح، ويحدد مواقع القصور وأسباب التقصير، ويبصر العواقب والمآلات، ولا تخدشه النتائج القريبة والسريعة، وتأسره الانفعالات.
لقد أصبح فقه الواقع، أو فقه المجتمع، علم له أدواته ووسائل قياسه، بل نستطيع أن نقول: إنه أصبح خلاصة لمجموعة علوم إنسانية واجتماعية وتاريخية، ولم تعد تنفع معه النظرة العابرة، أو الملاحظة الآنية، أو الأُمنية المخلصة.
إن علوم فقه الواقع اليوم أشبه بالحواس والنوافذ العقلية للحركة الإنسانية، والأمة التي تفتقدها في عالم اليوم أمة تعيش فيما يشبه مدارس الصم والبكم.
إن الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والتعرف على مكوناته ومؤثراته، ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها، على هدى وبصيرة، وعدم تشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بدل الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، هو سبيل الخروج من المأزق الذي نحياه.
إن فقه المجتمع والواقع يوازي فقه النص، وبدون فقه المحل ومعرفة الاستطاعات بشكل علمي وموضوعي فسوف تستمر المجازفات وهدر الطاقات، والعبث بالأحكام الشرعية، والمساهمة السلبية بالإساءة إليها، ولو عن حسن نية، فلا يمكن أن يسمى فقيهاً حامل النصوص، لأن فقه أبعاد التكليف قسيم فقه النص ومكمل له، فلا فقه لنص بلا فقه لمحله ". اهـ
والله أعلم