المداراة خلق سامي جدا وسبب اساسي من اسباب الألفة والمحبة .. ولبنة من لبنات الحفاظ على وحدة المجتمع ... ولنتعلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ...في مداراة الاعداء...
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مداراة الناس صدقة»[6].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[7].
تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين: وهؤلاء كان -عليه الصلاة والسلام- يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرحمة، والرفق، والإحسان، ومقابلة الإساءة بالعفو أو الإحسان؛ فكان يعاملهم على ظواهرهم دونما بحث عما تُكِنُّه سرائرهم، وتنطوي عليه دخائل نفوسهم.
ويشهد لذلك حوادثُ كثيرةٌ، ومن أجلاها مواقفه العظيمة مع رأس المنافقين عبدالله بن أُبَيِّ بنِ سلول الذي آذى النبي-صلى الله عليه وسلم-أيما أذية؛ حيث آذاه في بيته كما في قصة الإفك - فهو الذي تولى كبره، وأشاع قالة السوء عن عائشة -رضي الله عنها-.
وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحرج أوقاته، وهو الذي قال -كما أخبر الله عز وجل عنه-: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) (المنافقون:
.
وهو صاحب المواقف المشهورة بالخزي والشنار.
هذا الرجل الذي كان من شأنه ما كان لما مات طلب ابنُه من النبي قميصه؛ ليكفنه فيه؛ تطهيراً له؛ فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين!
أرأيت أكرم من هذا الصنيع؟ وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟
لا، بل مشى -عليه الصلاة والسلام- إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال: أتصلي على ابنِ أُبَيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ يعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أخِّر عني يا عمرُ".
فلما أكثر عليه قال: "إني خيِّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها".
وذلك إشارة إلى قوله -تعالى- في المنافقين: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (التوبة:80).
ففي الخيار بين أن يستغفر أو لا يستغفر نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه.
قال عمر بن الخطاب في نهاية الحديث: "فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (التوبة).
قال: فعجبت بَعْدُ من جرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ، والله ورسوله أعلم".[8]
فهذه مواقفه مع زعيم المنافقين؛ فما ظنك بمن دونه؟
الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي يعتزلهم ويعتزل تعليمهم وأمرهم ونهيهم كما أخبر الصادق، ولا بد لمن يخالط الناس أن يداريهم ليدفع شرهم ويتمكن من هدايتهم؛ فلولا مداراة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعداءَ من اليهود والمنافقين، وصبره على الأعراب الغلاظ الجفاة؛ لما تمكن من نشر دعوته، وتأمين أصحابه، سيما في بداية أمره، ولهذا كان ينهاهم عن مواجهة الأعداء، ويأمرهم بالصبر والاحتساب، ويذكرهم بما لاقاه أتباع الرسل من قبل، ويحذرهم من الاستعجال، وينهاهم عن التهور والارتجال.
عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا! قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحـــديد مــا دون لحمه من عظـــم أو عصــب، وما يصده ذلك عـــن ديــنه، واللـه ليتمَّــنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضـرموت لا يخـــاف إلا الــله - عز وجل - أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[28].
لم يتمكن الكفار من الوصول إلى ما أرادوا إلا بالتخطيط والتدبير، وبالنَّفَس الطويل، وبوضع الخطط ومرحلتها، وباستغلال الفرص وانتهازها.
وأخيراً: ينبغي على المرء أن يؤمن بالله ثم يستقيم على الصراط المستقيم، وأن يحذر الركون إلى أسلوب التنازلات والمساومات، وأن يعمل لإعلاء كلمة الدين والتمكين للمسلمين، وليس عليه إدراك النجاح: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 501].
والله الموفق للخيرات، وصلى الله على محمد الداعي إلى جميع المكرمات، وعلى آله وأصحابه ومن والاهم حتى الممات.
من مواقف المداراة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:
كانت المداراة السِّمَة المميزة لسلوك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أعداء الدعوة المتربصين بها الدوائر من اليهود، والمنافقين، والحمقى من المشركين، والمؤلَّفة قلوبهم، وأجلاف الأعراب، سيما في أول الأمر؛ ويدل على ذلك:
1 ـ عدم قتله ابن الصياد وقد ادعى النبوة؛ خوفاً من أن يثير على أتباعه شر اليهود.
2 ـ عدم قتله إمام الكفر والنفاق عبدَ الله بنَ أُبَيِّ بنِ سلول وتلطُّفه به؛ حتى لا يثير عليه قومه وعشيرته.
3 ـ حبه موافقة أهل الكتاب عندما هاجر إلى المدينة؛ ظناً منه أنهم أقرب إليه من المشركين وتألُّفاً لهم.
4 ـ عدم قتله مَنْ سحرَه ـ اليهودي لبيد بن الأعصم ـ واكتفى باستخراج السحر وغسله.
5 ـ عدم قتله اليهودية زينب أخت مرحب التي قدمت له الشاة المسمومة بخيبر وركزت السم في كتفها عندما علمت أنه يفضِّل من الشاة الكتف.
6 ـ عدم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - عليه السلام - بعد أن عزم عليه؛ تألفاً لقريش ورحمة بهــم حتى لا يظنوا به ظن السوء، فقال لعائشة - رضي الله عنها - ـ: «يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشِرْكٍ لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة[18]».
7 ـ إعطاؤه المؤلَّفة قلوبهم في غزوة حُنين وغيرها لكل واحد منهم مائة من الإبل؛ تألفاً لهم وحرصاً على أن يدخل الإيمان في قلوبهم، بل أعطى صفوان بن أمية وادياً من الإبل ووادياً من الغنم حتى أسلم وحسن إسلامه ودعا قومه إلى الإسلام قائلاً: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ بعد أن قال: جئتكم من عند خير الناس.
8 ـ تحرُّجه من زواج زينب بنت جحـــش - رضي الله عنها - بعد أن طلقها ابنه بالتبنِّي زيد بن حارثة - رضي الله عنه - خشية أن يتحدث الناس أن محمداً تزوج زوجة ابنه بالتبنِّي، ولكنَّ ربه أمره بذلك إبطالاً لهذه العادة.
9 ـ أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أمراء الجور وبالصلاة خلفهم وإن أخَّروها.
وأدلة كل ذلك صحيحة ومتوفرة.
10 ـ تبسُّمه وانبساطه في وجه عيينة بن حصن؛ اتقاء شره وخشية أن يؤلب عليه قومه وعشيرته، بعد قوله: «ائذنوا له! بئس أخو العشيرة»، مبرراً ذلك بقوله: «إنا نهشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم».
خرَّج البخــاري في صحيحـــه[19] عن عروة بــن الزبيــر - رضي الله عنهما - أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أنه[20] استأذن فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ائذنوا له؛ فبئس ابن العشـــــيرة، أو بئس أخـــو العشيرة»، فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول الله! قلتَ ما قلتَ، ثم ألنت له في القول؟ فقال: «يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
11 ـ خصَّ مخرمة والد المِسْوَر بقباء؛ لِحِدَّةٍ في لسانه: خرَّج البخاري في صحيحه[21] عن ابــن أبـــي مليكــــة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهديت له أقبية[22] من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة، فلما جاء قال: «خبأت هذا لك». قال أيوب: وكان في خُلُقه شيء.
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذين الحديثين ومعللاً مداراته - صلى الله عليه وسلم - لهما: (إنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خُلُقه من الشدة، فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفاً، وكان مع ذلك أهوج فكان مطاعاً في قومه)[23].
هذا قليل من كثير، إذ لم يكن هدفنا الإحاطة بكل من داراهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قصدنا الإشارة والتنبيه إلى ذلك.